نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الإدارة التونسية: لماذا يفشل المسؤولون في أغلب الملفات وماهي سبل الإصلاح الحقيقي, اليوم الخميس 6 فبراير 2025 05:50 مساءً
نشر في باب نات يوم 06 - 02 - 2025
كريم كريم
لا تكمن أزمة تونس اليوم فقط في صعوباتها الاقتصادية أو الاجتماعية، بل تتجذر في صلب إدارتها العمومية التي تُفترض أن تكون محرك التنمية ومصدر الحلول، لكنها تحولت في كثير من الأحيان إلى عقبة أمام النهوض الحقيقي.
المواطن التونسي أو المستثمر الذي يلجأ إلى الإدارات العمومية يواجه واقعًا مريرًا من البيروقراطية المعقدة، وانعدام الفعالية، وانتشار المحسوبية، وغياب أي روح للخدمة العامة لدى كثير من الموظفين والمسؤولين. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك كفاءات مظلومة داخل الجهاز الإداري، مكبلة بروتين قاتل، ومحاطة بثقافة إدارية تمنع المبادرة وتعاقب الجدارة بدل مكافأتها.
فما الذي جعل الإدارة التونسية تصل إلى هذا المستوى؟ وكيف يمكن الخروج من هذه الأزمة قبل أن تصبح الإدارة عاملاً يهدد التنمية والاستثمار؟
1. الإرث الإداري وعقبات الإصلاح
أ. إرث التعيينات السياسية وخنق الكفاءة
بدأ الخلل منذ عقود، حيث لم يكن التعيين في المناصب الإدارية العليا أو حتى الوظائف البسيطة قائمًا على الكفاءة والجدارة أو الاختصاص، بل على الولاء السياسي، والانتماء الحزبي، والعلاقات العائلية. فخلال عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، تم تفصيل المناصب على مقاس الموالين للنظام، مع تفضيل أبناء جهات معينة، وتوريث المناصب داخل العائلات الإدارية النافذة، مما جعل الكفاءات المستقلة محدودة ومقصية. كما أنه تم إغراق الإدارة بعشرات آلاف الموظفين عشوائيًا لامتصاص البطالة أو لإرضاء ممثلي الحزب الحاكم دون أن تكون هناك حاجة فعلية لتوظيفهم.
ورغم الثورة وسقوط النظام السابق، فإن هذه العقليات لم تتغير بشكل جذري، بل استمرت في أشكال جديدة عبر تدخلات الأحزاب واللوبيات والنقابات في التعيينات، مما رسّخ منظومة تقوم على الولاء بدل الإنجاز.
ب. بيئة إدارية متهالكة: غياب التخطيط والمساءلة
لا توجد إدارة ناجحة دون استراتيجية واضحة وموثقة وأهداف تنفيذية ملموسة، ومؤشرات أداء فعالة، لكن في تونس، تعمل أغلب الوزارات والمؤسسات العمومية بلا رؤية حقيقية، بل تعتمد على تسيير يومي مرتجل، دون تخطيط طويل أو متوسط المدى إلا القلة القليلة جدًا.
كما أن غياب آليات صارمة للمساءلة جعل المسؤولين في أغلب الأحيان معفيين من أي تقييم حقيقي لأدائهم وأداء الجهات التي يديرونها. فلا تقارير دورية تُنشر، ولا مؤشرات أداء تُحدد، ولا عقوبات تُفرض على الفاشلين أو المقصرين أو المتقاعسين، مما جعل الفشل الإداري يستمر دون رادع.
تعاني المؤسسات العمومية من بيروقراطية قاتلة جعلتها بيئة طاردة للإبداع والمبادرة، حيث تتسم الإجراءات بالبطء والتعقيد، ولا توجد مؤشرات واضحة لتقييم الأداء الفردي والجماعي. كما أن غياب نظم الحضور والانصراف وعدم مراقبة إنتاجية الموظفين عزز مناخ التسيب وعدم الالتزام، مما أثر بشكل مباشر على جودة الخدمات الإدارية وكفاءتها.
ج. إفلات من العقاب وتعطيل أجهزة الرقابة
من أكبر معضلات الإدارة التونسية انتشار ثقافة "الإفلات من العقاب"، حيث يمكن للمسؤول أن يفشل دون أن يُحاسب، وللموظف أن يتقاعس دون أن يخشى العقوبة، وللمفسد أن يعبث بمقدرات الدولة دون أن يُردع.
من أخطر مظاهر فشل الإدارة التونسية هو غياب المحاسبة الحقيقية. فالمسؤول يمكن أن يقضي سنوات في منصبه دون أن يقدم أي تقرير عن إنجازاته، ودون أن تتم مساءلته عن الإخفاقات التي تقع تحت إدارته.
د. عقلية إدارية عقيمة: الوظيفة بلا روح خدمة
تحولت الوظيفة العمومية في تونس إلى مجرد وسيلة للحصول على راتب ثابت وامتيازات اجتماعية، بدل أن تكون ميدانًا للعطاء وخدمة المواطنين.
ه. الدورات التكوينية: شكل بلا مضمون
رغم الحديث المتكرر عن التكوين المستمر للموظفين، إلا أن أغلب هذه الدورات شكلية، لا تؤثر على جوهر الأداء الإداري. فهي ليست سوى تمثيلية بيروقراطية لرفع التقارير، وليست آلية حقيقية لتطوير الكفاءات أو تحفيز الإبداع.
2. ما هي مخاطر استمرار هذا الوضع؟
إن استمرار هذا الوضع لا يؤدي فقط إلى تدني الخدمات الإدارية، بل يسبب تداعيات كارثية على الاقتصاد والمجتمع:
- انخفاض جاذبية الاستثمار بسبب تعقد الإجراءات والفساد.
- تآكل ثقة المواطن في الدولة نتيجة الإحباط المتراكم من سوء الإدارة.
- تباطؤ النمو الاقتصادي بسبب البيروقراطية القاتلة وضعف الإنجاز.
- انتشار الفساد والمحسوبية في ظل غياب الرقابة والمحاسبة.
3. حلول عملية: كيف يمكن إنقاذ الإدارة التونسية؟
أ. اختيار المسؤولين بكفاءة: معايير جديدة وحوكمة شفافة
- يجب إلغاء التعيينات المبنية على الولاء والعلاقات الشخصية.
- فرض معايير صارمة لاختيار المسؤولين، تقوم على الكفاءة والخبرة.
- وضع فترة تجريبية للمسؤولين الجدد، يتم على أساسها تقييم أدائهم قبل تثبيتهم.
ب. تعزيز التخطيط والمساءلة: إدارة قائمة على النتائج
- إلزام كل إدارة بوضع استراتيجية وخطط تنفيذية سنوية بأهداف كمية واضحة.
- فرض تقارير أداء ربع سنوية تُعرض على لجان مستقلة للتقييم.
- ربط استمرار المسؤول في منصبه بنتائج ملموسة، مع إقالة الفاشلين دون تردد.
ج. القضاء على المحسوبية والتدخلات: حرب حقيقية على الفساد الإداري
- تفعيل إدارات التدقيق الداخلي داخل كل وزارة لمراقبة الأداء المالي والإداري.
- تقوية أجهزة الرقابة الخارجية ومنحها استقلالية كاملة في اتخاذ القرارات.
- وضع قوانين صارمة لمعاقبة التدخلات والمحسوبيات، مع حماية المبلغين عن الفساد.
د. تحسين جودة الخدمات: المواطن أولوية
- رقمنة الخدمات الإدارية لتقليل البيروقراطية وتحسين الكفاءة.
- وضع آليات تقييم رضا المواطنين عن الخدمات، وتحليل شكاويهم بجدية.
- تحفيز الموظفين المتميزين بمكافآت مالية وإدارية، وتشديد العقوبات على المقصرين.
ه. زرع ثقافة جديدة في الوظيفة العمومية
- تغيير النظرة إلى الوظيفة من "راتب مضمون" إلى "مسؤولية أخلاقية ودينية ووطنية".
- فرض برامج تدريبية حقيقية، تعيد بناء ثقافة العمل والالتزام.
- إعادة الاعتبار للكفاءات المستقلة، وإعطاؤها مساحة أكبر لتطوير الأداء الإداري.
خاتمة: الإصلاح لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية
إن استمرار تواضع الأداء الإداري في تونس ليس مجرد مشكلة عادية، بل هو تهديد مباشر لمستقبل الدولة والمجتمع. فلا تنمية بدون إدارة ناجحة، ولا اقتصاد مزدهر دون جهاز إداري فعال، ولا استقرار دون ثقة المواطنين في مؤسساتهم.
الإصلاح ممكن، لكنه يحتاج إلى إرادة حقيقية، وتطبيق صارم للمساءلة، وحرب جدية على المحسوبية والتدخلات والانتهازية. وإلا، فإن الإدارة التونسية ستبقى حجر عثرة أمام أي أمل في التقدم، وسيتحول الفشل إلى قاعدة، والنجاح إلى استثناء نادر.
السؤال الآن: هل تمتلك تونس الجرأة والإرادة لفتح هذه المعركة المصيرية قبل فوات الأوان؟
تابعونا على ڤوڤل للأخبار
.
أخبار متعلقة :