نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
د. خالد قنديل: يناير المجيد ويوم من أيام التاريخ, اليوم السبت 25 يناير 2025 10:48 مساءً
ثلاثة وسبعون عامًا مرّت كأنها غمضة تاريخ، لكنها تركت في جبين الزمن ندبة من نور لا تنطفئ، علامة فاصلة على خارطة الأيام، يومٌ ارتفع فيه صوت الكرامة فوق ضجيج العالم، وشهد فيه التاريخ أنّ مصر حين تكون، يكون التاريخ. مصر التي لم تكن يومًا مجرد وطنٍ عابر في جغرافيا العالم، بل كانت روحه وبوصلته، وحين تتحدث أيامها، يصغي الزمان ويُقوّم مساره.
في الخامس والعشرين من يناير، تتجدد ذكرى مشهد لا يُمحى، قنديل لا تنطفئ شعلته، يوم صار الشرف عنوانًا وحكايةً لا تكتب إلا بحبر التضحية. في ذلك اليوم، لم يكن المصريون مجرد أبطال، بل أساطير حيّة تخطّها الأيام كلما احتاجت الوطنية إلى رجال يُعيدون تعريف الكرامة.. رجال الشرطة المصرية في ذلك اليوم لم يكونوا فقط يدافعون عن أرض، بل كانوا يعيدون للعالم دروسًا في معنى أن تكون مصريًا، أن تكون جزءًا من ترابٍ يحمل على كاهله تاريخ أمّة.
تلك البسالة التي يحملها المصريون في جيناتهم، كأنها تحية صباحهم اليومية، عرفها الزمن منذ فجره الأول. المصري، منذ أن صنع أول حجرٍ في الحضارة، كان يقف على ناصية الشجاعة ويقول للعالم "أنا هنا". وفي هذا اليوم، ترجمت الشرطة المصرية حكاية الشرف كأنها إرث مقدس، نقشوه بدمائهم على جبين الزمن. أبناء مصر، أولئك الذين جاؤوا من ترابها النقي، من صعيدها الأصيل، ودلتاه الخصيبة، ومدنها التي لا تنام، وسواحلها التي تحرس البحر بحكايات البطولة، وقفوا ليقولوا للعالم أجمع: "أنا المصري، ابن الأرض التي لا تعرف الانكسار". إنها مصر، حين تُطلّ على العالم، تكتب نفسها في كتاب الخلود، وكلما حاول الزمن أن يطوي صفحاتها، أعاد أبناؤها فتح الكتاب من جديد.
عددٌ قليل، لكنهم كانوا جيشًا بأكمله، رجالٌ لا يُقاسون بالعدد بل بالعزيمة، بأسودٌ نبتت أنياب شجاعتهم من تربة مصر، وبرزت في وجه عدوٍّ لم يعرف يومًا سوى الغطرسة والاغتصاب. عدوٌ جاء بثقله وجحافله، لكنه وقف عاجزًا أمام بضعة ضباط وجنود، قليلين في العدد والعتاد، لكنهم كانوا كثرة في القيم والوطنية. في معركة الإسماعيلية، حين رفضوا أن يُسلّموا مبنى المحافظة للبريطانيين، كان كل منهم أشبه بقلعةٍ قائمة بذاتها، يحمل روحه في كف، ووطنه في الكف الآخر. دفعوا دماءهم ثمنًا، وسقط منهم الشهداء وجرحى كُثر، لكنهم أثبتوا أن المصري حين يقف للدفاع عن وطنه، لا يقف وحده؛ يقف معه التاريخ، وتقف معه الأرض التي تعرف أبناءها.
لقد تركت معركة الإسماعيلية أثرًا لا يُمحى في ذاكرة الوطن، كأنها قصيدة منقوشة بحروف من دم على صفحات التاريخ. لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت درسًا خالدًا في التكاتف، حين اتحدت الشرطة المصرية بأبناء الشعب الذين خرجوا كأنهم سيل جارف لحماية وطنهم. هذا المشهد كان انعكاسًا لصورة أعمق، صورة مصر التي لا تكون دولة كغيرها، بل وطنًا يفيض بمعناه الأكبر: التلاحم، التعاضد، وإحساس كل فرد بأن روح أخيه لا تقل قيمة عن تراب الأرض.
مصر ليست كالدول التي تدّعي القوة العظمى، تلك التي لا ترى في الأرض سوى غنيمة ولا تعتمد إلا على المرتزقة لاحتلال ما ليس لها. مصر تعيش بدماء أبنائها، بأرواحهم التي تُعطر تربتها، بشجاعتهم التي لا تحتاج إلى شعارات. وحين ننظر إلى التاريخ، نجد أن مصر لم تكن يومًا وطناً خاضعًا أو مُستلبًا، بل وطنٌ يُقاوم، يُحارب، ويُعانق الحرية كلما حاول أحدٌ أن يُطفئ نورها.
وفي ذكرى الخامس والعشرين من يناير، نسترجع ثورة حملت في طياتها أحلام العدالة الاجتماعية والتنمية، ثورةً كانت صرخة في وجه التراجع الذي لم يكن يومًا يليق بمصر وتاريخها. لكنها، كعادتها، أبت أن تترك ساحة الوطن لمن أرادوا سرقة روحه. خرج المصريون في الثلاثين من يونيو، كما لو أن الوطن قد استدعاهم من كل فج عميق، ليُزيحوا تلك التيارات التي حاولت الاتجار بالدين، واتخاذه قناعًا لأطماعها. كانت تلك اللحظة شهادةً جديدة على أن المصري لا يساوم على حريته، ولا يُفرّط في إرادته.
ومن تلك اللحظات خرجت مصر أكثر صلابةً، تخطو بثقة نحو مستقبل يُعيد إليها مجدها.. المشروعات القومية الكبرى التي ترفع راية الوطن، والتقدم الذي يشهد به القريب والبعيد، ليست سوى ترجمة حية لإرادة أمة قررت أن تبقى شامخة، تُكتب حكاياتها لا بالحروف فقط، بل بالأفعال التي تجعلها دائمًا في مصاف الأمم العظيمة.
وهل تتوقف الأوطان عند الذكرى؟ أم أنّ الذكرى تظل جمرًا تحت الرماد، يشعل النفوس عزيمة ويوقظها على صوت الواجب؟ رجال الشرطة المصرية لم يكونوا يومًا ممن يكتفون بترديد الحكايات القديمة، بل جعلوا من تلك الذكريات وقودًا أبديًا لمسيرتهم، ليبقى الليل نهارًا في عيونهم، والسهر حارسًا للأمن في صيف البلاد وشتائها. بذلوا الأرواح بلا تردد، ووهبوا الدماء كي يبقى هذا الوطن الأمين مستحقًا كل غالٍ ونفيس، لأن مصر، بطينها الطاهر وأبنائها المخلصين، لا تحتمل أنصاف الولاءات، بل تستحق التضحية كاملة.
كانت هذه الروح الجليلة هي الرد على خسة الجماعة الإرهابية وأعوانها، حين أمعنوا في الانتقام من وطنٍ لفظهم ومن شعبٍ لم يخضع لجبروتهم. أطلقوا نيرانهم الغادرة، واستباحوا الأخضر واليابس، وجهوا أسلحتهم نحو صدور المصريين، شعبًا وأمنًا. لكن رجال الشرطة، الذين لم يتوانوا عن واجبهم لحظة، انحازوا لإرادة المصريين في ثورة 30 يونيو، رافضين حماية مقار الإخوان، ليقفوا في صفوف الشعب، فكانوا حائط الصد الأول أمام نار الإرهاب، ودفعوا ثمنًا غاليًا من أرواحهم. أكثر من ألف شهيد سقطوا، وآلاف الجرحى ارتسمت على أجسادهم خرائط الفداء، وكل ذلك ليبقى الوطن حرًا عزيزًا.
وفي هذا اليوم، نقف جميعًا وقفة إجلال وخشوع أمام أرواح الشهداء الذين نقشوا أسماءهم في سجل الخلود. نذكر حادثة الواحات، حين جاءت الاستغاثة الأخيرة كصرخة تُمزق القلب: "جميع أفراد المأمورية شهداء يا فندم". كانت كلمات اختصرت مأساة وبطولة، حيث واجه رجال الشرطة خلية الإرهابي الليبي أحمد المسماري بصحراء الواحات في 20 أكتوبر 2017، ليستشهد 11 ضابطًا ورقيب شرطة و4 مجندين، في ملحمة من الشرف والبطولة.
ولا ننسى أسماء الشهداء التي صارت أوسمةً على صدر الوطن: النائب العام المستشار هشام بركات، اللواء نبيل فراج، النقيب محمد أبو شقرة، الرائد رامي هلال، أمين الشرطة محمود أبو اليزيد، والعقيد طارق المرجاوي، والرائد عماد الركايبي، والنقيب هشام شتا، والعميد نجوى عبد العليم، أول شهيدة للشرطة من النساء، التي ارتقت يوم 8 أبريل، في تفجير الكنيسة المرقسية بالإسكندرية، حين تصدت هي والرائد عماد الركايبي لإرهابي حاول اقتحام الكنيسة.
هؤلاء هم الشهداء الذين صدقوا وعد الله في قوله تعالى: "أحياءٌ عند ربهم يُرزقون". أرواحهم تُحلّق في علياء الخلود، بعدما نقشوا أسماءهم في سفر المجد. هم الشرفاء الذين أضاءت معادنهم النقية في وجه خبث الأعداء، رجالًا ونساء، من جنوب مصر إلى شمالها، ومن شرقها إلى غربها، حتى صارت البيوت المصرية تتنفس الحزن والفخر معًا، لأنها قدمت أبناءها فداءً لتراب هذا الوطن العريق.
إنها مصر، التي لا يُطفئها غدر، ولا تنحني أمام طغيان.. رجالها وشهداؤها أحياء في الذاكرة، أحياء في الأرض التي ارتوت من دمائهم، وأحياء عند الله، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ويبقى عيد الشرطة شاهدًا خالدًا على الفخر والكرامة والمجد، يومًا لا يُمحى من ذاكرة الوطن، نُقشت حروفه بدماء رجال شجعان، حملوا أرواحهم على أكفهم ووقفوا في وجه المستحيل دفاعًا عن أرض مصر وكرامتها.. هؤلاء الرجال، الذين يختزلون في مواقفهم معنى الشرف والتضحية، صاروا رموزًا خالدة لا تُطاولها الأيام، تتردد أسماؤهم مع كل نفسٍ ينبض بحب هذا الوطن.
من معركة الإسماعيلية التي أضاءت صفحات المجد الأولى، إلى كل مشهد من مشاهد النضال الوطني، تظل فصول البطولة مفتوحة في كتاب الشرف الذي لم ولن يُغلق. فمصر، هذا الوطن الكريم، كعادته دائمًا، يختبر أبناءه، فلا يخيب ظنه فيهم أبدًا.. رجال الشرطة، أولئك الذين يذوبون كشموع مضيئة لتبقى البلاد في أمانها، سيظلون عنوانًا للكرامة التي لا تنحني، وسورًا منيعًا يحمي أرض مصر وشعبها، اليوم وغدًا وإلى الأبد.
0 تعليق